الأحد، 12 فبراير 2012

توثيقات توبة ابن تيمية ورجوعه إلى عقيدة أهل السنة الأشاعرة - الأزهري

قد سبق لي أن تحدثت عن ابن تيمية عرضا هنا في بعض الموضوعات ، ولولا تلك القدسية التي يضفيها عليه أتباعه من الوهابية اليوم ولولا ما تزخر به كتبه من القضايا الخطرة التي تهدم الدين لما تطرقت أصلا لمقالات ابن تيمية وذلك لسبب منطقي وهو أن ابن تيمية في سنة 707 هـ رجع رجوعا صادقا عن الشذوذ العقدي وشهد على نفسه بأنه أشعري ، وانتهى أمر الشذوذ العقدي عنده ، ومن تاب تاب الله عليه ، وهذا نص التوبة المذكورة معزوة إلى مواضعها من كتب التاريخ المعتبرة والتي غفل عنها كثيرون أو أغفلوها ، أنقل هنا تاريخ ونص التوبة من ( الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ) من تصنيف أمير المؤمنين في الحديث الإمام الحافظ شيخ شيوخنا الأقدمين أبي الفضل ابن حجر العسقلاني ط1414هـ ـ دار الجيل ـ ج1 / ص148 ، ومن كتاب ( نهاية الأرب في فنون الأدب ) للإمام القاضي شهاب الدين النويري المعاين للحادثة والمتوفى سنة 733هـ ط دار الكتب المصرية 1998م ج32 / ص115 ـ 116 وهذا نصه :

((( وأما تقي الدين فإنه استمر في الجب بقلعة الجبل إلى أن وصل الأمير حسام الدين مهنا إلى الأبواب السلطانية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة ، فسأل السلطان في أمره وشفع فيه ، فأمر بإخراجه ، فأخرج في يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر وأحضر إلى دار النيابة بقلعة الجبل ، وحصل بحث مع الفقهاء ، ثم اجتمع جماعة من أعيان العلماء ولم تحضره القضاة ، وذلك لمرض قاضي القضاة زين الدين المالكي ، ولم يحضر غيره من القضاة ، وحصل البحث ، وكتب خطه ووقع الإشهاد عليه وكتب بصورة المجلس مكتوب مضمونه :
بسم الله الرحمن الرحيم
شهد من يضع خطه آخره أنه لما عقد مجلس لتقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي بحضرة المقر الأشرف العالي المولوي الأميري الكبيري العالمي العادلي السيفي ملك الأمراء سلار الملكي الناصري نائب السلطنة المعظمة أسبغ الله ظله ، وحضر فيه جماعة من السادة العلماء الفضلاء أهل الفتيا بالديار المصرية بسبب ما نقل عنه ووجد بخطه الذي عرف به قبل ذلك من الأمور المتعلقة باعتقاده أن الله تعالى يتكلم بصوت ، وأن الاستواء على حقيقته ، وغير ذلك مما هو مخالف لأهل الحق ، انتهى المجلس بعد أن جرت فيه مباحث معه ليرجع عن اعتقاده في ذلك ، إلى أن قال بحضرة شهود : ( أنا أشعري ) ورفع كتاب الأشعرية على رأسه ، وأشهد عليه بما كتب خطا وصورته :
(( الحمد لله ، الذي أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله ، وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية ، وهو غير مخلوق ، وليس بحرف ولا صوت ، كتبه أحمد بن تيمية .

والذي أعتقده من قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) أنه على ما قاله الجماعة ، أنه ليس على حقيقته وظاهره ، ولا أعلم كنه المراد منه ، بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى ، كتبه أحمد بن تيمية .

والقول في النزول كالقول في الاستواء ، أقول فيه ما أقول فيه ، ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى ، وليس على حقيقته وظاهره ، كتبه أحمد بن تيمية ، وذلك في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة ))

هذا صورة ما كتبه بخطه ، وأشهد عليه أيضا أنه تاب إلى الله تعالى مما ينافي هذا الاعتقاد في المسائل الأربع المذكورة بخطه ، وتلفظ بالشهادتين المعظمتين ، وأشهد عليه بالطواعية والاختيار في ذلك كله بقلعة الجبل المحروسة من الديار المصرية حرسها الله تعالى بتاريخ يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة ، وشهد عليه في هذا المحضر جماعة من الأعيان المقنتين والعدول ، وأفرج عنه واستقر بالقاهرة .. ">">">"> اهـ .
هذاكلام الإمام النويري ، ونحوه كلام الحافظ ابن حجر ، ونقل هذه التوبة غيرهما أيضا ، وفيما ذكرنا هنا كفاية .

ولعل جهل هذه الحقيقة ـ أعني رجوع ابن تيمية إلى الحق ـ كان سببا رئيسا في تأرجح كلمة العلماء فيه بعد وفاته ، ففي القرن التاسع الهجري جاء إلى البلاد المشرقية الإمام الكبير والمناظر الخطير الضارب بسهم وافر في شتى العلوم العلامة محمد بن محمد الشهير بالعلاء ابن البخاري وكان معظما عند أرباب الدولة ، مفخما عند العلماء أشعري الاعتقاد ، سيفا مسلولا على أهل البدع ، وكان ممن يكفرون طائفة ابن عربي الصوفي ويزبد ويرعد فيهم وصنف في إكفاره ، فلما وصل هذا العالم إلى مصر والشام وكان معظما لابن تيمية ، فعارضه البعض بكلام ابن تيمية المخالف لعقائد المسلمين فطالع العلاء البخاري عقيدة ابن تيمية من جديد وصار يحاول الاعتذار عنه وآل الأمر في آخر المطاف إلى أن كفر ابن تيمية وصنف في ذلك كتابا يكفره فيه ، بل ويكفر من سماه بشيخ الإسلام ، فرد عليه ابن ناصر الدين الدمشقي الصوفي الأشعري بكتاب سماه الرد الوافر ، وقد قرض الكتاب الأخير جماعة من كبار علماء مصر منهم الحافظ ابن حجر والبدر العيني والشمس البساطي والبلقيني وغيرهم ، واعترضوا على تكفير ابن تيمية ، متعللين بأنه لم يكن يصر على الباطل ويلمحون إلى رجوعه الذي أسلفناه ، وهذا هو الحق ، فابن تيمية لم يحفظ عليه بعد تاريخ الرجوع المذكور أنه حوكم في العقائد إلى اليوم ، وتلاميذه من بعده مختلفون ليسوا على رأي واحد ، فمنهم قلة قليلة بقيت على آرائه التي كان عليها قبل رجوعه ، ولم يصدقوا بأنه رجع عنها ، وأكثرهم لم يكن يوافقه عليها ، بل البعض منهم لم تكن له دراية بأمور العقائد ، وجماعة من تلاميذه يعلمون بأنه قد تاب مما خالف فيه ، لهذا كانت المدرسة المصرية أعدل الطوائف فيه ، فهي لم تأخذ بشذوذاته العقدية التي يكفر معتقدها ، ولم تقل بتكفيره أيضا لما ثبت عندهم من رجوعه ، ومع هذا فقد استمر خلاف المسلمين فيه من ذلك الوقت إلى اليوم ، ولم تكن الناس بل ولا العلماء وطلاب العلم يلتفتون إلى هذه المسألة أصلا قرون طويلة ، إلى أن قامت الدعوة الوهابية من نجد الفتنة فتبنت آراءه كلها بشكل مجمل غير مفصل بشكل رهيب ملفت للنظر وقدسوه وعظموه غاية التعظيم ، حتى صار ابن تيمية عندهم مساويا لكلمة السلف !!!


والسلف مساوية لكلمة ابن تيمية ، وغلوا فيه غلوا عظيما ، وبدأت كتب ابن تيمية تظهر إلى الوجود مرة أخرى ، بعد ان أعدمت في حياته ونزعت ومزقت وحرقت واندثرت وما كان احد يجرؤ على إظهارها ومدارستها علنا ، فعادت طباعتها من جديد في دولة عبدالعزيز آل سعود !! ولما لقيت الدولة السعودية الجديدة اعترافا دوليا وبدأت علاقاتها بالدول الإسلامية المحيطة تتحسن بدأت كتب ابن تيمية تتدفق من المطابع السلفية بالمملكة ، غير عارفين بمغبة هذا الأمر وما يمكن أن تحدثه كتب ابن تيمية ، ولم تخضع في حينها للدراسة والمناقشة والفحص بل ولا التحقيق والتأكد من صحة نسبتها إلى ابن تيمية ، وهكذا رجع الخلاف من جديد وبدأ الصراع القديم يتجدد بسبب كتب ابن تيمية ، واضطرب الوضع ، وأحس كثير من العلماء بالخطر الذي تحمله كتب ابن تيمية والذي قد تظهر آثاره على المدى البعيد ، فهب جماعة من أهل العلم ـ وما أكثرهم ـ للرد على كتب ابن تيمية وما فيها ، علماء من المغرب وتونس وموريتانيا والجزائر ومصر والسودان وتركيا والهند واليمن ومن كل بلاد الإسلام تقريبا ، والناس البسطاء والشباب المتحمس للصحوة الإسلامية يحسبون أن القضية تقف عند حد مسألة التوسل والقبور وبعض الألفاظ ومسالة التقليد أو الاجتهاد وأشياء من هذا الباب !!!



ولم يعلموا حقيقة الأمر المرير الذي أدركه المحققون من العلماء ، حتى أن بعض العلماء من شدة خوفهم على عقائد الناس آثروا السكوت لظنهم أنه الحل لصرف الناس عن كتب ابن تيمية ، ولكن البعض الآخر كان يرى أن السكوت من شأنه فيما يأتي من الزمن ويستقبل من الوقت أن يوهم الناس رضا العلماء عما في كتب ابن تيمية من المسائل الخطيرة فشرعوا في كتابة الردود والتحذير ، ولو جئنا لحصر هؤلاء العلماء وتفصيل جهودهم في الرد على تنوعها من مؤلف خاص أو مقال أو محاضرات أو بحوث لطال الأمر جدا ونشير في هذه العجالة إلى أهم التصانيف التي كتبت في هذا المجال ، فمنها ( شواهد الحق ) للعلامة يوسف بن إسماعيل النبهاني الأزهري هذا الكتاب الذي قرضه كبار العلماء بالديار المصرية أنذاك : العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي المالكي ، والعلامة علي محمد الببلاوي الأزهري المالكي ، والعلامة الكبير عبدالقار الرافعي الزهري ، وشيخ الإسلام والجامع الأزهر فضيلة الإمام عبدالرحمن الشربيني ، والعلامة مفتي الديار المصرية بكري بن محمد بن عاشور الصدفي الأزهري ، والعلامة الحافظ الكبير مفخرة المغرب الرحالة الشهير عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني المغربي ، والعلامة الفقيه الكبير السيد أحمد بك الحسيني الشافعي شارح الأم ، والعلامة سليمان العبد الشبراوي الشافعي الأزهري ، والعلامة أحمد بن حسنين البولاقي الشافعي الأزهري ، والعلامة الكبير أحمد البسيوني شيخ السادة الحنابلة الأزهري ، والعلامة محمد الحلبي الشافعي والعلامة سعيد الموجي …

وقد قال النبهاني في كتابه المذكور ص53 عن كتب ابن تيمية :

(( مع أني وقتئذ لم أكن اطلعت على .. كتب ابن تيمية : منهاج السنة ، وكتابه المعقول والمنقول … وكلها طبعت أخيرا … ولكني كنت أرى تلك الأبحاث في كتب أخرى ردوها على ابن تيمية وشنعوا عليه بها ، ككتب الإمام ابن حجر المكي رحمه الله ، وجزاه خير الجزاء عن خدمة الشريعة المحمدية ، ورده تلك المسائل الشنيعة على ابن تيمية وإن لم يكن وحده أقام عليه النكير في ذلك ، بل كثير من العلماء من المذاهب الأربعة شتعوا عليه غاية التشنيع في ذلك رحمهم الله أجمعين ، وغفر له ما ارتكبه من هذا الأمر العظيم الذي ترتب عليه من المفاسد الدينية خصوصا من أتباعه فرقة الوهابية ما لا يعلم غير الله تعالى قدر الأضرار التي وصلت منه إلى الأمة المحمدية : من القتل والقتال وذهاب النفوس والأموال ، وحكمهم على كافة المسلمين من أهل المذاهب الأربعة بالشرك والضلال ، وما زالت أضرارهم إلى الآن سارية في الأمة حسا ومعنى ، وهم ومن أعجبه شأنهم ممن لا خلاق لهم في الدين ، مازالوا إلى الآن يشوشون عقائد كثيرة من ضعاف الطلبة وعوام المسلمين ، ويدعون الاجتهاد ، ويبغون في الأرض الفساد ، ولا يتبعون من مذاهب أهل السنة والجماعة سبيل السداد ، وما زال الشيطان يجهز منهم جماعة بعد جماعة ، وهم كل يوم في ازدياد ، ولله في ذلك قضاء لا يرد وحكم لا يعلمها إلا الأفراد .. )) اهـ المقصود .

وصنف كذلك شيخ الإسلام ومفخرة الزمان مصطفى صبري التوقادي آخر مشايخ الإسلام بالدولة العثمانية في الرد .
وصنف العلامة المحقق الذي لم تكتحل عين الدهر بمثله الإمام الخطير وكيل المشيخة الإسلامية بالدولة العثمانية الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري مصنفات كثيرة في هذا الباب وكل مصنفاته متوفرة في مصر بمكتبة الكليات الأزهرية .
وصنف العلامة منصور عويس الأزهري كتابه ابن تيمية ليس سلفيا ، وغير ذلك من التصانيف التي لا عدد لها … وقد أوذي هؤلاء الذين كتبوا وردوا وصنفوا وطعن عليهم ولقبوا بألقاب جاهزة من ( جهمية ) و( معطلة ) و ( معتزلة ) وبأنهم مشركون ووثنيون وكفروا وووووووو واختلط الحابل بالنال ومرج الأمر على الناس وطلاب العلم ، وتشوشت المسائل فما يدرون مع من يقفون ، ولا من يتبعون فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .


هذا ويدور الزمان دورته وتكثر ، ويزداد الاطلاع ، ويتسع العلم ، وتكثر الجامعات في بلاد الحرمين ، ويتقدم الطلاب ببحوثهم ورسائلهم وقد ملئت بأفكار ابن تيمية التي رجع عنها …
وهنا يطلع الطلاب والعلماء على ما كان خافيا عليهم من أقوال ابن تيمية مما كانوا يظنونه مكذوبا عليه أو متقولا على ألسنة الحاقدين ، وتصير الحقائق ماثلة أمامهم ، فهاهم باتوا يرون الغرائب والعجائب في كتب ابن تيمية التي تطبع يوما بعد يوم ، ويطالعون من المسائل الغريبة ما لا يتصور أن يتجرأ على البوح بها أجهل الناس وأبعدهم عن السنة !!! ويكثر النزاع بين الوهابية أنفسهم ( الذين اصطلحوا مؤخرا على تلقيب أنفسهم بالسلفية ) ويبدأ العراك السلفي ـ السلفي .

إنها مسائل باتت تتكشف لطلاب العلم والعلماء ، مما لا يسوغ لمسلم القول بها
أبدا ، فصاروا حيص بيص ، فمن هذه المصائب الكبرى والكفريات العظمى التي ظهرت للباحثين وتعرت للمنصفين المتجردين :

1 ـ ( قيام الحوادث بذات الخالق ) سبحانه !! سبحانه !! أي أن صفاته العظيمة تتجدد في ذاته تعالى فتتبدل و تتجدد ولا تستقر على حال ، بل تتتغير في نفسه حالا بعد حال ، وتنقص وتزيد ، هذه الصفات إذا كانت بهذا الشكل يقال لها حوادث ، فجوز ابن تيمية في كتبه هذا المعنى على الله !!!! ونسبه كعادته إلى السلف !!! ولما كان ( السلفية ) ولا زالوا في خضم جدالهم ومباحثاتهم يكفرون الرافضة بعقيدة ( البداء ) اكتشف بعضهم فجأة أن ما أنكروه وكفروا الرافضة بسببه من ( البداء ) وهو التجدد في علم الله تعالى بحيث يصير علمه قابلا للزيادة شيئا بعد شيء ، اكتشفوا أن ابن تيمية يقرر هذا المعنى ويجوزه على الله في صفة ( الكلام ) و ( الغضب ) و( الرضا ) وما إلى ذلك من صفات الذات ويسمي ذلك الأفعال الاختيارية فسقط في أيديهم ، وانسحب أكثر المتعلمين منهم عن الجدال في هذه المسألة بعينها بل رأيت منهم من نصح أخاه بأن لا يخوض في هذه المسألة لأن تقريرها صعب بزعمه !!!! والحقيقة أن هذا الاكتشاف الجديد زادهم اضطرابا وخلافا فمنهم من أصر على موقفه من امتناع ( البداء ) ومنهم من رجع عن ذلك وقال بجواز قيام الحوادث بالذات تبعا لما اكتشفوه من الحق في كتب ابن تيمية ، وهكذا في الوقت الذي نجد الرافضة تتبرأ من القول بالبداء وتتنصل منه ، يتغالى بعض السلفيين ويجاهرون بالقول به ّّّّّّ!!!!!! وهو كفر محقق لا مرية فيه .

2 ـ ( فناء النار ) : وفي أثناء الهجمة السلفية الشرسة على المدرسة الصوفية ، والتباري الغريب في تضليل الصوفية والتحذير منهم ، طبعت كتب في تكفير ابن عربي الصوفي الشهير بسبب أقوال كفرية نسبت إليه منها قوله بنجاة فرعون من النار !!!!! ويقرر السلفيون تكفيره من هذا الوجه وغيره لخرقه الإجماع الضروري فيها ، وفجأة يكتشفون ردودا كتبت على ابن تيمية بسبب قوله بفناء نار الكفار ونجاتهم جميعا بما فيهم فرعون من العذاب !!!!! يتقدم البعض من طلاب هذه المدرسة بالبحوث في مسألة فناء النار التي اتهم ابن تيمية بالقول بها ، وينتصر لبراءة ابن تيمية من هذا القول ، ويقرر هو وكثير من أهل العلم من السلفية بأن القول بفناء نار الكفار وتخلص أهلها من العذاب عقيدة باطلة لا يقول بها إلا فرقة ضالة عرفت في علم الفرق بـ( الجهمية ) وقد نالت من التكفير والتضليل على ألسنة أهل السنة والجماعة في القرن الثالث الهجري ما يكفي ، وفجأة تظهر كتب ابن تيمية محققة في حلة قشيبة من جامعاتهم والتي ينتصر فيها ابن تيمية للقول بفناء النار بكل جرأة ووضوح !!!! وهنا ينقلب الوضع ويبدأ نزاع جديد ينتهي بما انتهت إليه مسألة حلول الحوادث بالذات !! وبدأنا نسمع الآن أن فناء نار الكفار وارتياح أهلها منه كفرعون وهامان وجنودهما إنما هو قول من أقول السلف وأن هذه المسألة فيها قولان !!!!!!!!!! فلا فرق إذن بين عصاة المؤمنين وعتاة الكافرين فالكل ناج من العذاب !!!! وهذه شهادة سلفية ، لعلنا لا نجد أبلغ منها في هذا الموضوع ، كتبها من لقبوه بإمام السلفية ومحدث العصر ، وإنما اخترناها مع كثرة شهادات أهل العلم لأننا لو ذكرنا شهادة أحد أهل السنة من علماء الأمة أو الأزهريين لقيل إنهم متعصبون على ابن تيمية حاقدون عليه ، فهذه هي شهادة الشيخ محمد ناصر الألباني شيخ سلفية الشام :
قال في مقدمته لكتاب ( رفع الستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار ) ط1 ـ المكتب الإسلامي عن ابن تيمية ما نصه :

(( غفل عن المعلوم يقينا )) وقال : (( حتى استقر ذلك القول في نفسه ، وأخذ بمجامع لبه ، فصار يدافع عنه ، ويحتج له بكل دليل يتوهمه ، ويتكلف في الرد على الأدلة المخالفة له تكلفا ظاهرا خلاف المعروف عنه ، وتبعه في ذلك بل وزاد عليه تلميذه وماشطة كتبه ـ كما يقول البعض ـ ابن قيم الجوزية ، حتى ليبدو للباحث المتجرد المنصف أنهما قد سقطا فيما ينكرانه على أهل البدع والأهواء من الغلو في التأويل ، والابتعاد بالنصوص عن دلالتها الصريحة ، وحملها على ما يؤيد ويتفق مع أهوائهم .. حتى بلغ الأمر بهما إلى تحكيم العقل فيما لا مجال له فيه ، كما يفعل المعتزلة تماما .. ))

وقال الألباني أيضا : (( فكيف يقول ابن تيمية : ( ولو قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة !! ) فكأن الرحمة عنده لا تتحقق إلا بشمولها للكفار المعاندين الطاغين !! أليس هذا من أكبر الأدلة على خطأ ابن تيمية وبعده هو ومن تبعه عن الصواب في هذه المسألة الخطيرة ؟! فغفرانك اللهم )) اهـ ،

ويقول الألباني أيضا عن ابن القيم : (( لم يقنع بميله إلى القول بفناء نار الكفار ، وتخلصهم به من العذاب الأبدي في تلك الدار ، حتى طمع لهم في رحمة الله أن ينزلهم منازل الأبرار ، جنات تجري من تحنها الأنهار … وإن مما لاشك فيه أن هذا الذي استظهرناه هو في الخطورة والإغراق كقوله بالفناء إن لم يكن أخطر منه لأنه كالثمرة له ، ولأنه لا قائل به من مطلقا من المسلمين ، بل هو من المعلوم من الدين بالضرورة ، للأدلة القاطعة بأن الجنة محرمة على الكفار .. )) اهـ .

ويقول : (( فالحق والحق أقول لقد أصيب ابن القيم في هذه المسألة مع الأسف الشديد بآفة التأويل التي ابتلي بها أهل البدع والأهواء في مقالتهم التي خرجوا بها عن نصوص الكتاب والسنة .. )) اهـ .

بل قال الألباني : (( قل لي بربك : كيف يمكن لابن القيم أن ينكر أبدية النار ببقاء أهلها فيها وعدم دخولهم الجنة مطلقا لولا تشبثه بذلك التأويل البشع ، وهو المعروف بمحاربته لعلماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة لتأولهم كثيرا من آيات وأحاديث الصفات كاستواء الله على عرشه ونزوله إلى السماء ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من التأويل الذي هو أيسر من تأويله ، فقد قال به كثير من المتأخرين خلافا للسلف وأما تأويله فلم يقل به أحد منهم لا من السلف ولا من الخلف إلا تقليدا لشيخه .. )) اهـ


لكننا للأسف رأينا رسائل صغيرة تقرر هذه العقيدة الكفرية وتجعل منها مذهبا للسلف ، بل ولا يستحي مؤلفها الذي يعزو نفسه للسلف من طلب المباهلة ممن خالفه !!! وهكذا بدأت عرى الإسلام تنقض على أيدي هؤلاء عروة عروة .

ولو استرسلنا في ذكر باقي المسائل التي يقف لها شعر الرأس ، ويصاب المرء منقراءتها باليأس لذكرتها هنا ، ولكن فيما تقدم كفاية لمن عقل ورشد .

والحاصل أن كثيرا ممن ردوا على ابن تيمية من السابقين واللاحقين ، حتى ممن سموا أنفسهم بالسلفيين قد غفل كثير منهم عما ثبت في التاريخ وصح ، من رجوع ابن تيمية عما يخالف عقائد أهل السنة من الأشعرية وأقر بذلك وكتبه بخطه سنة 707هـ بحضرة العلماء ، ولم يثبت بعد ذلك أنه حوكم على قضايا العقيدة ، بل حوكم على مسائل فرعية فقهية ، سومح في واحدة وعوقب في الباقي ، وقدر الله أن مات في سجن قلعة صلاح الدين سنة 728هـ بسبب إحداها ، وليست هذه المسائل مما يكفر به المسلم ، ولا كانت هذه المسائل سياسية أو من جملة مواجهة السلاطين كما ظن بعض المغفلين !! .

وهكذا مات ابن تيمية مسلما بعد رجوع صادق ، ولسنا ـ نحن المدرسة الأزهرية ـ ممن يقول بتكفيره لما أوضحناه وأبناه من الرجوع المسجل في التواريخ ، ولا يمكن نقض هذا الرجوع بدليل قاطع ، بل هي شبه يلقيها البعض وقد أجاب عليها المجحققون من أهل العلم ، بينما بقيت كتبه التي رجع عنها منهلا لكثير من نواقض الإسلام ، يضل بسببها كثير من الأنام ، فرحمه الله وغفر له ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

( التوفيق والتقريب ) :

فالواجب على المسلمين جميعا في هذا الأمر الكف عن العقائد الكفرية بإجماع المسلمين :

1 ـ كالقول بحلول الحوادث في الذات وما شابه ذلك من المسائل التي بسطعا أهل العلم والتخصص الموثوقين .
2 ـ أو إنكار بدء الخلق .
3 ـ أو القول بفناء نار الكفار .
4 ـ أو القول بحلول الخالق سبحانه في الأماكن العلوية أو السفلية .
5 ـ أو ما يؤدي إلى تشبيه أو تجسيم من حمل النصوص على ظواهرها .

وأما ابن تيمية فيترحم عليه ولا يكفر ، وما له من صالح فعليه يشكر ، وتجتنب كتبه وتصانيفه في العقيدة لما فيها من زيف واضح أو مدسوس أو مختلق مكذوب أو رأي فاسد رجع عنه وتاب وأناب ، والله الهادي للصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق